إن الجدال مع الطبقة المثقفة ونخبة المجتمع لا يكون ظاهرياً وسطحياً لقضايا عامة ومستهلكة, بل يكون على مستوى فكري اعمق حتى يكون اكثر نجاعة عند الوصول لتقبل الأفكار السطحية المحدثة , فالنقاش العميق في اصل المفاهيم والبناء الفكري يمكن ان يؤسس لتغيير رديكالي في فكر هذه الفئة, فبالعودة لدراسة النهضة الأوربية نجد انها بدأت بنقاش عميق وفلسفي للعديد من المفاهيم التي شملت المؤسسة الدينية بوصفها اساس الفكر الإنساني للمواطن الأوربي في تلك الحقبة.
الإختلاف الشديد عادة ما يكون جوهري !
كثيراً ما نختلف في مفاهيم قد تبدو سطحية في مستواها العياني, لكن خلف كل القضايا العامة الجدلية إختلاف عميق في وجهات النظر وبنائها الفكري والتي قد تحتاج إلى إطلاع واسع وموضوعي لمفاهيم الرأي الأخر والإستعداد التام على تبنيها في حالة مطابقتها للواقع والمنطق ولكن قليلاً ما يحدث ذلك بسبب غطرسة الأنسان وإنحيازه التأكيدي Confirmation bias لأفكاره المسبقة , حيث كلما زادت معرفة الشخص وقل فهمه للقضايا الفلسفية, زادت مكتسباته التي تدعم إنحيازه التأكيدي, وبالتالي أصبح من الصعب إقناعه برأي مخالف لرأيه لإقتناعه الشديد بصحة معتقداته خاصة إذا تلقى دعماً من الفكر الجماعي لقبيلته , فيتحول فكره إلى إنعكاس للإديولوجيات السائدة في مجتمعه دون إدراك حقيقي لها حيث يكون التعصب هنا مبني على العاطفة بدرجة أكبر.
لماذا قد يشكل هذا مشكلاً ؟
قد لا يختلف إثنان عن كونه أحد أهم الأسباب الرئيسية في إندلاع الحروب في العالم , فالصراع الحقيقي بين أقطاب العالم المختلفة كان ولازال إديولوجياً (بإعتبار الفكر الأناني إديولوجية قائمة في حد ذاتها.)
فكافة الإديولوجيات الدينية والإقتصدية أو حتى الإجتماعية تشترك وتتورط كلها في إنحيازها التأكيدي وتعصبها, ما دفع بعض الفلاسفة والمفكرين القدماء للإعتقاد بأن هذه الخاصية فطرية في الإنسان وهي ما تمنحه الثبات والتوازن الفكري والعقائدي , وهناك من تجاوز ذللك ووصل إلى حد الإعتقاد بأن البشر لا يمكن أن يكونوا موضوعيين بنسبة تامة في تفكيرهم ودائماً ما يكونون منحازين بدرجة محددة إلى أفكارهم المسبقة من وجهة نظر معينة او من اسلوب تعبيرهم وإستخدامهم للمصطلحات ووزنها.
بالعودة إلى موضوعنا لماذا قد يشكل ذلك مشكلاً ؟ فببساطة شديدة وبالنظر إلى مجتمعنا الحالي وتطوره نجد أنه يتجه أكثر نحو العولمة ولا أقصد هنا بالعولمة المفروضة والممنهجة من طرف جهات حكومية معينة , بل يشمل إصطلاحاً تقارب الشعوب في عالمنا لدرجة لم يسبق لها مثيلاً في التاريخ القديم , وأزمة الوباء الأخيرة خير مثالاً عن ما نقصده,, هذا الإقتراب الشديد بين الشعوب والمريب في نفس الوقت لفت نظر العديد من المفكرين والقادة إلى فكرة جوهرية أننا في هذا الكوكب الأزرق نعيش في حلقة دائرية يكون التأثير فيها متبادلاً , لايمكنك أن تؤثر دون أن تتأثر ولا ان تستفيد دون أن تفيد مهما بلغت قوتك العسكرية والإقتصادية , هذه الفكرة دفعت بالقادة لوضع خطة يائسة وبعيدة المدى محاولين تغير الأفكار رديكالياً وخلق نظام عالمي عام متوافق مع كافة الأنماط البشرية , ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالنقاش العميق في أصل المفاهيم كما ومحاولة تكييفها تحت غطاء نظام واحد لا يبحث إلاً عن تحقيق العدالة الإجتماعية التي تنادي بها الشيوعية وفي نفس الوقت حرية رؤوس الأموال التي تنادي بها الرأس مالية دون تجاوز المعاير الأخلاقية التي وضعتها الديانات السماوية وبعيداً عن المصلحة الشخصية والأنانية للقائمين على النظام.
هل يمكن تحقيق ذلك ؟
بالنظر للمعطيات الحالية من كثافة سكانية وجيوسياسية والبيانات الإقتصادية, أو حتى مختلف الدراسات الإجتماعية فإنه يمكن القول أننا مازلنا بيعدين كل البعد عن تحقيق ذللك على الأقل للثلاثة أجيال البشرية المقبلة, فالفكر الإنساني مازال يميل إلى القومية والتعصب للعرق والعادات القبلية حتى في أرقى المجتمعات الغربية وأكثرها تحرراً ومنادات بالقيم العلمانية , ولا يمكن للوم أحد على ذلك كونه تطور مع الحضارة البشرية على مدار ألاف السنوات , لكن وكون الفكر الإنساني ليس حقائق علمية ولا قوانين فزيائية فيمكن القول أن بصيص الأمل مازال قائماً في تنشئة جيلاً كاملاً من القادة الشباب المشبعيين بهذا الفكر مع إمتلاكهم للمهارات القيادية اللأزمة والعلم والوسائل الكافية لتحقيق هذا التغير الرديكالي.
هل أمره خير ؟
لا يمكن التنبوء بذلك إطلاقاً, لكن مع ذلك أرى أنه الحل الوحيد في ضل عالم متعدد الأقطاب مع رغبة كل قطب في السيادة والزعامة لن تنتهي الحروب إطلاقاً, فهذه الإديولوجيات السابقة حصلت على فرصتها يوماً ما مضى ومنحت مشعل قيادة العالم وكلاً منها كان له من الحسنات كما كان له من السيئات وحان الوقت للبحث عن سبل جديدة ترقى والحضارة البشرية البسيطة على المستوى العياني والمعقدة في باطنها.